ميخائيل ميلشطاين- معهد دراسات الأمن القومي
ترجمة مركز عكا لمتابعة مستجدات الشأن الإسرائيلي
أسهمت حركة حماس إسهاماً كبيراً في تعاظم فكرة المقاومة في المنطقة خلال العقود الأخيرة، وقد تم ذلك عن طريق دمج أعمال دفعتها لمكافحة إسرائيل مع أعمال في الساحة الفلسطينية الداخلية وعلى رأسها : إظهار الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة " في صيف 2005 " كنجاح للحركة في استنزاف إسرائيل, وإجبارها على الانسحاب الكامل من الأرض الفلسطينية, واقتلاع مستوطنات إسرائيلية أنشئت فيها. بالإضافة للإنجازات الحركة المؤثرة خلال الجولات الأربع من الانتخابات المحلية التي جرت في السلطة الفلسطينية في السنوات 2004 – 2005 ، وتتوج ذلك بفوزها التاريخي في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية في يناير 2006، والتي حظيت بعدها بتزعم السلطة الفلسطينية، ونجاحها في السيطرة باستخدام القوة على قطاع غزة في يونيو 2007 مع هزيمة مطلقة لحكم أبو مازن، وهي الخطوة التي جعلتها ذات السيادة الكاملة على هذه المنطقة. وكذلك أدارت حماس معارك عسكرية عديدة في قطاع غزة في السنوات الأخيرة, والتي تبرزها حماس كنجاحات " بما في ذلك أيضاً – حملة الرصاص المصبوب –" خاصة بسبب عدم قدرة إسرائيل على إعلان النصر أو الحسم للمعركة.
حماس تمثل نموذجاً لم يسبق له مثيل لتوجه المقاومة، فهي الحالة الفريدة في الشرق الأوسط التي يصعد فيها أحد التنظيمات التابعة لمدرسة الإخوان المسلمين- ويمتلك ذراعاً عسكرياً مستقلاً- إلى دفة الحكم في انتخابات ديمقراطية، وبعد ذلك يُقصى بالقوة الحكم القائم " في قطاع غزة "، وبذلك أسس لنفسه موقفاً ذا سيادة في منطقة غزة.
كل ذلك قد أنجزته حماس بدون أن تندمج في تسويات سياسية أياً كانت ( مثلما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية )، وتخلت بشكل مطلق عن حياة السرية، وتبنت بشكل كامل الملامح الحكومية, وذلك من خلال استمرارها في طرح مفهوم الجهاد ضد خصم خارجي بالتزامن مع إدارة دفة الحكم. في أعقاب ذلك أصبحت حماس عامل المقاومة المركزي في المنطقة، التي تعيش التوتر الداخلي، بالتزامن مع إجراءات إنشاء المؤسسات الحكومية. في سياق مشابه ومن أجل المقاومة اندمج حزب الله أيضاً في حكومة لبنان، لكنه لا يحكم الدولة نفسها، وعليه فإنه يواجه تحديات ومعضلات تشبه المعضلات التي تعاني منها حماس .
النهج الفريد لحماس وخبرتها الطويلة التي تجمعت خلال العشرين سنة من قيامها في مختلف المجالات تمثل عاملاً أساسياً في رسم أنماط نشاطاتها. ومع ذلك الحركة أيضاً اكتسبت إيحاءً وإلهاماً كبيراً من قوى المقاومة الأخرى الموجودة في الساحة, وعلى رأسهم حزب الله.
حرب لبنان الثانية كانت بالنسبة لحماس مصدر محاكاة بارز على " المستوى النظري والعملي "، فخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس جدد بالشكل الأنجع الدروس التي استخلصوها من هذه المواجهة, ففي لقاءات صحفية و خطابات جاءت في الأشهر التي تلت الحرب, عرض مشعل بشكل منهجي استنتاجات الحرب، وقد وصفها بأنها أعنف مواجهة بين إسرائيل وبين قوة مقاومة، والتي أثبتت نهايتها ونتائجها بشكل قطاع أنه يمكن وضع رد مناسب للتفوق العسكري الإسرائيلي. وحسب كلامه أن حرب لبنان الثانية كانت " شعاع النور " الأكثر وضوحاً في سلسلة أحداث " ساطعة " أثبتت عظمة فكرة المقاومة، وعلى رأسها انسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي من جنوب لبنان، واندلاع انتفاضة الأقصى، وفك الارتباط عن قطاع غزة.
مشعل وصف في تحليله عدة استنتاجات مركزية قام باستخلاصها:
1. حرب لبنان وضعت إسرائيل في حالة جديدة من عدم قدرتها على إنهاء المواجهة بنصر أو بحسم، ووفق إدعاء مشعل أنه منذ سنة 1982 ليس بمقدور إسرائيل أن تنتصر في الحروب التي تديرها. إلا أن حرب لبنان الثانية وضعتها أمام معركة لم تسبق لها أن عرفتها، وتختلف اختلافاً كلياً عن أنواع المعارك التي خاضتها في السابق ضد الجيوش وأنظمة الحكم. إسرائيل لم تزل متفوقة عسكرياً وتكنولوجياً بشكل واضح، وواضح أيضاً أنها لم تحسم بشكل كامل، لكن ثبت ضعفها وعدم قدرتها على تحقيق الحسم في تعاطيها ضد تحدي المقاومة.
2. طريق المقاومة شحن في الساحة تفاؤلاً جديداً بفرصة حصد النصر المستقبلي في الصراع مع إسرائيل, وعرضت الطرق لتحقيق هذا الهدف. نجح مفهوم المقاومة في تحييد أو إبطال التفوق العسكري الإسرائيلي, وهو الأمر الذي لم تستطيع الجيوش العربية من تحقيقه, وهذا الإبطال للتفوق الإسرائيلي وذلك عن طريق الاستنزاف المستمر، أو إبداء العزم أو التصميم المتجذر في العقيدة الدينية, والاستعداد للتضحية الكبيرة. كل ذلك أثار الأمل بأن النصر على إسرائيل يمكن تحقيقه في المستقبل، لكن من أجل تحقيقه يجب التحلي بالنفس الطويل والصبر, وقدرة الصمود أمام نيران العدو وهجماته، لأن الحديث يدور حول " اختبار من الله ".
3. أثبتت الحركة أن بمقدور مفهوم المقاومة أن يكون بديلاً حقيقياً للاتجاه السائد في العالم العربي للتوصل إلى تسويات سياسية مع إسرائيل كخيار إستراتيجي.
هنا – وفق أقوال مشعل – يوجد لحماس تفوق أو أفضلية عن قيادة السلطة الفلسطينية, من حيث أنها لا تهرع لتحقيق مكاسب فورية؛ ما يجعلها حصينة ضد أي إغراءات سياسية من أي نوع.
4. برهنت الحرب أن إسرائيل واقعة في أزمة داخلية عميقة، حسب إدعاء مشعل بعدما اختفى جيل المؤسسين الذي أنشأ الدولة فإن من يحكمها الآن هو جيل زعماء أصغر ويتميزون بالضعف والفساد وعدم الثقة. هذا الوضع يعكس الوضع العام في الدولة, ويتجسد في حالة عدم الثقة العميق التي يعيشها السكان المدنيون, ويعيشها الجيش, والقيادة الوطنية, وكذلك في حالة القلق الجماعي, وعدم اليقين المتزايد حول استمرار وجود الدولة في المستقبل.
إن حرب لبنان الثانية أثارت مفهوماً تبلور في إسرائيل بعد حروب 1967 وحتى 1973 والذي بموجبه أن وجود إسرائيل مؤمن إلى الأبد. وحسب إدعاء مشعل أن إسرائيل أيضاً سعت إلى غرس هذا التفكير في وعي العرب؛ لإقناعهم باعتماد وتبني مسارات التسوية السياسية والتطبيع. وفي الوقت نفسه أوضح مشعل أن الداعم التقليدي لإسرائيل – الولايات المتحدة – تواجه صعوبات مشابهة نظراً لعدم قدرتها على عرض نجاحات في ساحات العمل التي تتعاطى فيها هي نفسها مع تحدي المقاومة – في العراق وأفغانستان – .
5. ليس هناك أي تناقض بين الحكم وبين الجهاد. في هوامش تحليل حرب لبنان خصص مشعل فصلاً واسعاً لوصف خبرة حماس في موقفها الجديد كحزب حاكم. حسب أقواله أن الحكم يشكل وسيلة للحركة, وهو ليس هدفاً يمكن أن يضفي تغييراً في أنماط عملها.
فضلاً عن ذلك حماس صعدت إلى الحكم على قاعدة ضمان استمرار فكرة المقاومة، وأن الهيمنة على الحكم إنما هي مرحلة في الخطة الإستراتيجية طويلة الأمد. حسب أقواله أن حماس في دورها الجديد أيضاً كمديرة لدفة الحكم متمسكة بمبادئها: إنها قدمت عمليات جهاد ( إطلاق واسع للصواريخ، أو العملية التي نفذوها في يونيو 2006 والتي اختطف فيها الجندي من جيش الدفاع جلعاد شاليط وقُتل جنديان ) ولم تمنع نشاطات عسكرية لفصائل المقاومة الآخرين, ولا تستنكر عمليات كهذه، ودمجت مبدأ المقاومة مع الخطوط الأساسية للحكومة التي ترأسها ( بما في ذلك حكومة الوحدة الوطنية التي أقامتها سوية مع فتح في مارس 2007 ومارست عملها حتى يونيو من نفس السنة ). كما صمدت حماس أيضاً ضد الضغوط الخارجية من أجل تليين مذهبها الفكري, وخاصة أمام الضغط للاعتراف بإسرائيل، أو الإعلان عن التنازل عن الكفاح المسلح. وبالتالي حسب إدعاء مشعل برهنت حماس على قدرتها في الجمع بين الحكم والجهاد، وأوضحت أنه ليس بالضرورة أن تفرض " ضرورات الحكم " على فصائل المقاومة تليين وتراجع مواقفها. بل العكس – حسب أقواله – الدور الجديد يزودهم بوسائل متنوعة أكثر, ويمنحهم قوة أكبر لتحقيق أهدافهم الإستراتيجية.
ومع ذلك كما هو الحال بشأن حزب الله وأيضاً بشأن حماس, يجب دراسة الفجوة التي بين المستوى الخطابي المشبع بالعاطفة, وبين تصرفات الحركة على ارض الواقع، السياسة تأثرت كثيراً من الظروف الجديدة التي نتجت في السنتين الأخيرتين, وعلى رأسها تحول الحركة إلى حاكمة لقطاع غزة. حماس في الحقيقة لم تتراجع عن مبادئها الفكرية, ومستمرة طوال الوقت بالاستعداد للتعاطي عسكرياً مع إسرائيل، ولكن يتطلب منها استثمار جهد كبير في الحفاظ على الحكم. وبالتالي فهي تظهر حساسية أكثر مما سبق حيال تلبية حاجيات السكان، وحيال المزاجية عندهم. وعليه حماس أيضاً تظهر في خطواتها – خاصة في المجال العسكري – حذراً شديداً أكثر مما مضى لكي تتجنب المواجهات واسعة النطاق والمستمرة, والتي سببت ضربات قاسية لنظام الحكم وللنسيج المدني الذي تقوده.
التعبير البارز الأول للتوتر الداخلي الذي نشأ في حماس كان اتفاق التهدئة في قطاع غزة في يوليو 2008 . هذه الخطوة أثبتت أن مجموعة المعوقات التي تواجهها حماس كعامل حكم أكثر تعقيداً من التي تعاطت هي معه في السابق، ويلزم في بعض الأحيان كبح فرض التعزيز الدائم لقضية الجهاد. وتحاول الحركة – كما هو متوقع – أن تنظم المأزق، وتعرض التهدئة كإنجاز يعكس بالذات تراجع إسرائيل، وصمود حماس. محمود الزهار من زعماء حماس في قطاع غزة ادعى – وتفسيره يبدو للمراقب الخارجي أنه قسرياً إلى حد بعيد – أن موافقة إسرائيل على التهدئة نابع في الأساس من الإنجازات المحدودة حققتها حماس بعد العمليات العسكرية التي مارستها جيش الدفاع الإسرائيلي ضد حماس قبل بلورة الاتفاق. وحسب زعم الزهار أن نتائج هذه العمليات أوضحت لإسرائيل عدم قدرتها بأن تلحق بحماس ضربة قاضية. المأزق الداخلي لحماس بتمسكها بدفة الحكم قد وصل إلى ذروته في أعقاب " حملة الرصاص المصبوب " فرغم أن زعماء حماس حقيقة يتبهرجون علينا بالنجاح في منع إسرائيل من تحقيق النصر، ويزعمون أنهم أبدوا عزمهم ومثابرتهم وطول نفسهم. ولكن الثمن الباهظ الذي تكبدته حماس خلال حملة الرصاص المصبوب بما في ذلك مقتل مئات النشطاء، واهتزاز موقف الحركة كنظام حكم ( خاصة بعد الضربة القاسية في جهاز الأمن الداخلي لحماس في قطاع غزة, وكذلك مؤسسات الحكم والبنى التحتية المدنية في القطاع), وكذلك أثارة الانتقادات الداخلية الفلسطينية والعربية للحركة يلزمها منذ بداية عام 2009 باتخاذ سياسة مقيدة أكثر من السابق. وقد تجسد الأمر بوضوح في عدم إطلاق الذراع العسكري لحماس صواريخ باتجاه إسرائيل منذ انتهاء حملة " الرصاص المصبوب "، وهناك دلائل ومؤشرات بأن نشطاء الحركة يمنعون من حين لآخر نشطاء المنظمات الإرهابية الأخرى العاملة في قطاع غزة من إطلاق الصواريخ.
غازي حمد وهو قائد في حماس في قطاع غزة أوضح " حساب النفس " الذي عاشته حركته عندما نشر مقالاً غير عادي في حدته، وزعم فيه أن حماس تتباهي بالانتصارات غير المجسدة بالحقائق والأعداد, وإنما بالنشوة المشبعة بالأوهام, وهو وضع يمنع تقديم دراسة صادقة عن أخطائها.
في الحالة الفلسطينية إذاً هناك ظاهرة مثيرة للاهتمام : المقاومين القدامى " منظمة التحرير وفتح " الذين اتجهوا للعمل في المؤسسات, وضعفوا بالتدريج، وخلال ذلك أفسحوا مكانهم لزعامة أو لقيادة وطنية للمفهوم الجديد للفكرة – وهي حركة حماس – التي هي أيضاً واقعة في السنوات الخيرة في اتجاه التمأسس. ولكن على الرغم من الاستمرارية والتشابه في الظاهر يبدو واضحاً بين فتح وحماس إلا أنهما ليستا نفس الظاهرة بل تعد " حماس " ظاهرة جديدة تماماً، فحماس تطمح في أن ينظر إليها كبديل شامل عن اتجاهات المقاومة السابقة، والذين حسب زعمها قد ضلوا طريقهم، وبالتالي هم فقدوا الحق في زعامة الساحة الفلسطينية.