أشباه الرجال
د. هيثم طيب
ولا زالت "يا أشباه الرجال ولا رجال" تقرع آذان الخونة وتدك صروح الجبناء.. تذكروا "رجل يسعى".. وتذكروا أن الرجولة تتجلى في المواقف.. فإلى كل عالم أعمت أبصاره "فلاشات" الكاميرات وإضاءات القنوات الفضائية، فلم ير سيول الدم في غزة.. وإلى كل حاكم أصابته حمى الالتصاق بعرش رخيص فلم يقدر على النهوض لنصر الصبايا والأطفال والنساء.. وإلى كل إعلامي أمضى عمره لهثاً خلف حطام زائل فتشقق حلقه فلم يعد يتكلم بالحق.. وإلى كل أثرياء العرب وتجار المسلمين.. وإلى كل الأدباء والمفكرين.. وإلى كل القادرين على أمر ما.. أنادي فيكم رجولتكم.. وأصرخ فيكم مقولة نبي الله لوط حين قال: "أليس منكم رجل رشيد؟؟"
"يا أشباه الرجال ولا رجال"!
هي كلمات روتها لنا كتب التاريخ والسير ونسبتها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو يخاطب جمعاً من أهل العراق..
وهي نصف جملة تكونت من كلمات أشبه بالحمم وكرات اللهب فانهالت على رؤوس الخونة والجبناء..
"يا أشباه الرجال ولا رجال"!
قرأتها وتأملت.. ثم تعجبت وتساءلت..
أكانت مشكلة أولئك النفر أنهم تشبهوا بالنساء في لباسهم أو كلامهم؟ أو أنهم تصرفوا بخفة وطيش كالأطفال والصبيان؟ أو لنقل: أكان علي ـ رضي الله عنه ـ يشك في "ذكورية" هؤلاء النفر أو "فحولتهم"؟ الجواب: لا! فلم تكن المشكلة في تدني مستوى هرمونات الذكورة عندهم ولم تكن المشكلة أنهم "تخنثوا" في المظهر أو السلوك..
م تكن المشكلة في "ذكورية" أولئك القوم.. بل كانت في "رجولتهم"!
اقرأوا القرآن وتأملوا في أفعال الرجال.. وهنا بعض الأمثلة:
المثال الأول: حين اتفق فرعون ومن معه على قتل موسى عليه السلام أنقذه "رجل".
يقول سبحانه وتعالى: "وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين"، الرجل يعلم بأمر الملأ، فيدرك أن الأمر هام وعاجل، فلا ينتظر أمراً سامياً ولا تعميماً وزارياً هزيلاً، بل يرى أنه مخاطب بأداء واجب إنساني وفطري فيأتي موسى ويخبره وينصح له، ولو تدبرت فإنك تستطيع أن ترى الرجل وهو يركض مسرعاً من مسافات بعيدة ثم يسعى في طرقات المدينة ليقوم بواجبه الذي تطوع لأدائه.. باختصار كان رجلاً!
المثال الثاني: حين اتفق فرعون ومن معه على قتل موسى عليه السلام سعى في حمايته "رجل".
يقول سبحانه وتعالى: "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله". الرجل يعلم بأمر المكيدة، وقد علم أنها لا تضره شيئاً، وهو يعلم أيضاً أن في تدخله مخاطرة كبيرة في كشف ما يحاول جاهداً في إبقائه سراً، إلا أن هناك أمرا ما دفعه إلى تلك المغامرة، فكيف يعيش وقد علم أنه خذل موسى بل كيف يطيق النظر إلى نفسه في المرآة وقد اختار أن يكون جباناً، فتكلم وسعى في حماية موسى.. باختصار كان رجلاً!
المثال الثالث: يرسل الله ثلاثة رسل إلى قوم فلا يجدون منهم إلا الصد والتكذيب، فيأتي لمساعدة رسل الله "رجل".
يقول سبحانه وتعالى: "وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين". الرجل يؤمن بالرسل ويؤمن بأن لهم مدداً من الله وأن النصر بيد الله ويعلم يقيناً أن هؤلاء الرسل لا حاجة لهم في أن يقف ذلك الموقف الرهيب وحيداً أمام "ترسانة" القوم، لكنه اختار أن يموت من أجل قضية بدلاً من أن يعيش على هامش التاريخ.. باختصار كان رجلاً!
إن الرجولة الحقيقية تتجلى في المواقف..
وفاء العهد من الرجولة.. والصدق في الكلام من الرجولة..
ونصرة المظلوم من الرجولة.. والكرم من الرجولة..
والشجاعة من الرجولة.. والعيش من أجل مبدأ من الرجولة..
والموت من أجل عقيدة.. تمام الرجولة..
والأمر معروف في لغة العرب، فعندما أراد المتنبي أن يمدح بدر بن عمار، قال فيه:
يا بدر يا بحر يا غمامة *** يا ليث الشرى يا حمام يا رجل
فجعل الرجولة صفة جامعة لكل أمر محمود مطلوب.
فلو كان "الذكر" يعاني نقصاً في كرم أخلاقه أو نبيل مشاعره أو عميق إيمانه، فإن رجولته لا شك تعاني نقصاً حاداً وربما مزمناً.
وأتذكر الآن "يا أشباه الرجال ولا رجال"!
وعدوه فأخلفوه موعدهم.. ورأوه في حاجة فخذلوه.. أشار عليهم برأي سديد فعصوه.. فكانوا في نظره أشباه رجال.
الرجولة الحقيقية تتجلى في المواقف، وكل حسب حاله، فليس عدلاً أن يكون لنا معيار واحد في "قياس" مستويات الرجولة لدي جميع الناس، والصحيح أن المعيار الشخصي للرجولة يتأثر زيادة ونقصاناً بحسب حال المرء ومقدار ما يملك من علم أو جاه أو مال أو سلطة، فإنك تنظر إلى مفتي الديار وتتوقع رجولة من مستوى عال جداً، وتختلف حتماً من رجولة سائق حافلة مدرسية، وأنت تنظر في وجوه الجالسين خلف طاولة المفاوضات وتأمل منهم رجولة من مستوى يختلف حتماً من رجولة بائع "الكنافة"، والأمر يطرد على جميع من أنعم الله عليه بنفوذ سياسي أو اقتصادي أو شرعي أو اجتماعي.. ولا أظن أن هذا الأمر يجادل فيه أحد.
أكتب مقالي هذا ودماء إخواننا في غزة لا تجف ونحيب أخواتنا هناك لا ينقطع وعلم الله مقدار ما في أنفسنا من ألم ولوعة.
يقتلني ألمهم.. ويهد عزمي عمق جراحهم.
أبو ريشة يتلوى ويقول:
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتّم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
نعم.. لم تلامس النخوة ولم تلامس الرجولة..
ولا زالت "يا أشباه الرجال ولا رجال" تقرع آذان الخونة وتدك صروح الجبناء..
تذكروا "رجل يسعى".. وتذكروا أن الرجولة تتجلى في المواقف..
فإلى كل عالم أعمت أبصاره "فلاشات" الكاميرات وإضاءات القنوات الفضائية، فلم ير سيول الدم في غزة..
وإلى كل حاكم أصابته حمى الالتصاق بعرش رخيص فلم يقدر على النهوض لنصر الصبايا والأطفال والنساء..
وإلى كل إعلامي أمضى عمره لهثاً خلف حطام زائل فتشقق حلقه فلم يعد يتكلم بالحق..
وإلى كل أثرياء العرب وتجار المسلمين.. وإلى كل الأدباء والمفكرين..
وإلى كل القادرين على أمر ما..
أنادي فيكم رجولتكم.. وأصرخ فيكم مقولة نبي الله لوط حين قال: "أليس منكم رجل رشيد؟؟