كلمات من البحر المتوسط

هذه رسالة كُتبت من أحد أفراد ركب سفينة كسر الحصار الحالية ليلة السبت
وسيصبحون السبت29/5/2010 متوقعين وقت الظهيرة موعد مجابهتم لبوارج الصهاينة...
فالله الله بالدعاء وإكثار الطاعات، ومن يستطع الصيام فإنها أيام بيض

الجميع يحمل حقائبه و آمال جبارة على باب تلك السفينة .. آمال بأن يمسح على رأس طفل يتيم ..
آمال بأن يقبل رأس أم شهداء .. آمال بأن تلمس يده يد مريض محتاج و هو يعطيه دواء الحياة ..
آمال بأن يحضن معاق .. و يقول لكل هؤلاء لن تنمحِ الإنسانية نحن معكم .. قلبا ..
و ها نحن الآن معكم جسدا .. و ترتسم ابتسامة هنا على وجه ذلك و تلك لم افتقدتها ملامحهم منذ سنين ..

كنت هنا أرتقب التهديدات الصهيونية المتصاعدة .. و التصريحات من كافة المستويات ..
و الصهاينة يطلبون منا توقيف الحملة و إعطاء المعدات الطبية و الإنشائية و هم سيوصلوها ..
طبعا ليس لأهل غزة بل لما هو أقرب لهم للجحيم .. تلفت حولي أتأمل الوجوه تارة و أسأل تارة أخرى ..
من سيتراجع الآن عند نقطة الصفر .. من سيصعد السفينة لن ينزل منها أبدا .. إلا في غزة بإذن الله ..
لا أحد معقولة .. 600 شخص مصممون على المسير .. ضد رابع أقوى جيش بالعالم .. لا يحملون معهم أي إسلوب دفاعي ..
حتى حجر .. مصممون .. لحظة رأيت دموعا تترقرق من عين صديقة أوروبية لي .. ثم علمت أن صديقتها تراجعت في اللحظة الأخيرة ..
فالتفت لي صديقتي الأوربية تتكلم قائلة للأسف خسرت الكثير الكثير الكثير .. و أغلق الباب الفولاذي ..
يا الله كم أكره هذه الكلمة فهي تذكرني بالجدار الفولاذي الذي عزل فينا آخر أمل بالإنسانية ..
لكنني لا زلت أقف أمامه .. فقط تراجع شخص واحد من 600 شخص ..
مع أن التحذيرات كانت لنا إننا قد نستغرق شهرين بدل الشهر في البحر .. رائع يا غزة .. علمتينا كيف نذوب في عشق الحرية ..


بسم الله مجريها و مرساها .. و انطلقنا في حدود الواحدة فجرا بتوقيت مكة المكرمة نحو قبرص ..
مكالمة حنونة جدا جائت لي من أختي تشد فيها من أزري “المشدود أصلا بفضل الله”
و أطل منها رعاية أمي التي أتعب كلما أسمع صوتها المرتجف و وصاياها لي .. أماه لا تخافي و لا تحزني يا قرة عيني سأعود بإذن الله ..
سأعود لأرتمي بحضنك و أقبل رأسك كل مساء كما إعتدت .. سأعود لتأخذي رأيي بكل ستارة جديدة و كل قطعة جديدة بالمنزل ..
سأعود لتتصلي بي و تطلبي مني إحضار قائمة الأعشاب من العطار .. سأعود لكي تقر عينك بي و لا تحزني أبدا ..


دخلنا السفينة أربعة طوابق كبيرة جدا و الجو رائع .. بدأ المسلمون بالصلاة و الدعاء و التكبيرات و الإنشاد ..
ثم اجتماع للتعليمات العامة داخل السفينة .. و كل جملة من التعليمات تنتهي بهذه العبارة ..
لا نعلم قد نمكث في هذه السفينة يومان أو شهران .. يجب أن نقتصد في الطعام يفضل فقط وجبة واحدة في اليوم ..
تنظيف الحمامات .. النوم كل 5 أشخاص على أريكة واحدة بالتناوب .. فهنالك جدول للنوم ..
حبة دوار البحر مرتان يوميا مع أذكار الصباح و المساء .. أسمع هذا الكلام و أقول لله دركم يا أهل غزة يا من تعيشون وحدكم
و لا تعلمون متى تنهد بيوتكم فوق رؤوسكم .. و محطة تحلية المياه مدمرة و نحن قد يضايقنا طلب ترشيد شرب المياه ..

يا من لا تستطيعون النوم من الخوف من غارة .. يا من تبحثون عن الدواء و لا تجدونه أبدا ..
دواء بسيط للسكر أو للربو غير متوفر .. تضيع بسببه الحياة .. لله دركم لله دركم لله دركم


جلست مع إمراة و زوجها كنت أظنهم من الجزائر لكن أخبروني أنهم من غزة ..
لقد تركوا أبنائهم الأربعة عشر في غزة و خرجوا لعلاج الأم من سرطان في القولون ..
طبعا العلاج غير متوفر في غزة لأنها تحتاج لجرعات من الكيماوي و هو ممنوع عليهم لأنه من المواد الإرهابية المحرمة دوليا ..


لكن عندما يستخدمه الصهاينة فهو من المواد السلمية المحللة دوليا .. تحاول العودة عبر معبر رفح ..
لكن تعسف الفراعنة معهم منعهم من المرور .. مع أن لديها إذن بالدخول و الخروج للعلاج ..
و الأربعة عشر ابن لوحدهم في بيتهم في غزة يتلحفون الجوع و يلتهمون الحرمان ..
وسيلتها الأخيرة هي السفينة مع أن في حالة تعرف السفينة للقرصنة الصهيونية فسوف يتم إعتقال الأب على الأقل ..
مجازفة تحت ظروف صحية صعبة في سبيل العودة لأبنائهم .. فقط .. يا عالم ما هذا الظلم المجحف ..
إلى متى سنتركهم يتألمون و نحن في لذاتنا غارقون ..


في هذه الليلة انقطعت الاتصالات لخروجنا من المياه الإقليمية التركية و كان شيء متعب لأن انقطاعنا بدأ عن العالم
و لا وسائل اتصال متوفرة للجميع باستثناء الصحافة .. الجو جميل جدا فجلسنا نتحدث مع بعض طوال الليل عن غزة
و السفينة و عن أهلنا و أحبابنا اللذين تركناهم خلفنا يرتقبون عودتنا .. أديان مختلفة و جنسيات مختلفة و لغات مختلفة ..
الأغلب كان خليط من الإنجليزية و الفرنسية و العربية .. خليط مضحك و ممتع ..
كانت ليلة ذات شجون تداخلت فيها ضحكاتنا و دموعنا و حماسنا و صمودنا ..
غيرت في عقولنا الكثير و أضافت لقلوبنا مشاعر جديدة لن تكون موجودة في قواميسنا من قبل ..
الآن فقط تيقنت أن من يحمل قضية في حياته يجب أن لا أن لا يتعب من حملها و يجب أن لا يحملها لوحده ..