في بلاد العراق ارض الشقاق والنفاق ، دارت معارك طاحنة بين الكفر والإيمان ، كانت معركة القادسية .... معركة فرقان .. حيث فرقت ما بين الحق والباطل وانتشر الإسلام .
في أقصى الشمال كانت قرية الصافي ، كانت من أواخر القرى التي وصلها الإسلام ، في البداية تم بناء مسجد من سعف النخيل ، كانت القرية تجلس شامخة متربعة على رافد من روافد نهر دجلة الذي يمر شمال الصافي .
الشيخ ولاء مؤذن المسجد في العقد الخامس من عمره ، عريض المنكبين ، ربعة ، مدور الوجه ، تكسو وجهه لحية كثيفة سوداء أخذ الشيب يزحف إليها بخجل ، يعتمر قبعة صوفية تعلوها زعبوطه طويلة تعطى مدى في طول الرقبة .
الشيخ براء أمام وخطيب المسجد في العقد السادس من عمره ، اعتلى الشيب رأسه ، ولحيته الكثيفة الممتدة حتى منتصف صدره ، طويل القامة ، نحيل ، يعتمر طاقية بيضاء مزركشة بالأبيض وجلابية بيضاء فضفاضة وأنيقة .
أخذ كل منهما على عاتقه تعليم أركان الدين الجديد ونشره ، وخدمة المسجد وأهله ، ورفع الأذان في وقته ، وإقامة الصلاة وإمامة الناس وإلقاء خطبة الجمعة والعيدين ، وجمع الزكاة والتبرعات لأعمار المسجد ولرسم البسمة على شفاه المحرومين .
وفى جمعة مشهودة جلس الشيخ ولاء والشيخ براء يعدان ما تم جمعه من مال الزكاة والتبرعات وأثناء ذلك قال الشيخ ولاء :
- عندنا العلم والمكانة ولكن ينقصنا المال ، نموت من الجوع والربيع ذراع !!!
- ماذا تقصد يا شيخ ولاء ، أفصح .
- واللـه يـا شيـخ بـراء طباخ السم بذوقه !!! اقترح أن نقتسم نصف ما نجمع من مال الزكاة !!!
- لا بأس ، والقائمين عليها !!!
نما إلى علم العجوز أبو الصافي الذي سكن احد الكهوف في سفح جبل عال يطل على القرية من بعيد ، أبو الصافي لا يكبره أحد عمراً في القرية ، ويعتقد أبناء القرية انه تعدى المائة عام بكثير وأصبح يكنى باسم القرية ، فهو نحيل الجسم ، طويل القامة ، أشعت أغبر ، حفر الزمان حفراً عميقة في وجهه وكساها بتجاعيد متعددة الطبقات في وجهه ورقبته وشقوق غائرة صلبة في كفيه وقدميه العاريتين ، كان يعتمر كوفية على رأسه أكل الدهر عليها وشرب ، وتزين لحيته شعيرات مبعثرة تجتمع في خصيلات من الشعر الأبيض الناصع .
حضر العجوز أبو الصافي إلى القرية لشراء مؤونة الشتاء الذي كان على الأبواب ، فسمع بأمر الدين الجديد ، وأشار عليه أحفاده وأولاد أحفاده لان أولاده قد ماتوا منذ زمن بعيد !!! أن يتجه صوب المسجد ، أعلن إسلامه بين يدي الشيخ براء والشيخ ولاء ، نطق الشهادتين في المسجد وتناوب كل من الشيخ ولاء والشيخ براء في شرح أركان الإسلام لهذا العجوز المعمر ولكن الشيخ براء كان له الباع الطويلة في ذلك حتى وصل إلى الصلاة ، فكان السؤال والإجابة من الشيخ براء والعجوز أبو الصافي .
- الصلاة عمود الدين يا أبو الصافي وهى خمس صلوات وعددها .
- هل استطيع الصلاة في الجبل ؟ لأنني كما تعلم أتجشم عناء الطريق الطويلة والوعرة للوصول للقرية .
- نعم ، تستطيع إقامة الصلاة ولكن صلاة الجمعة جامعة ولابد أن تؤديها في المسجد .
- الله يعينني على عناء الوصول يوم الجمعة !!! ... ولكن يا شيخ هذا ممكن في الشتاء ولكنه غير ممكن في الصيف !!!
- لماذا يا أبو الصافي ؟!!! .
- لأنني اعبر رافد النهر في الشتاء بسهولة لان المياه تكون قد جمدت بفعل البرودة الشديدة واستطيع المرور فوق الجليد والوصول إلى المسجد ، ولكن في الصيف تكون الثلوج قد ذابت وأصبح رافد النهر مليئاً بالمياه القادمة من رؤوس الجبال ويكون خطر الغرق وارداً وبقوة .
- تستطيع يا أبو الصافي أن تمد يدك على وجه النهر وتدعو الدعاء التالي " اللهم يا رب العرش العظيم ، جمد هذا الماء " فيتجمد النهر بإذن الله وتستطيع القدوم للمسجد والصلاة يوم الجمعة والعودة السالمة الغانمة بإذن الله .
انشرحت أسارير المعمر أبو الصافي وانشقت عنها ابتسامة صافية كصفاء سريرة أبو الصافي ، شكر لهما مساعدتهما واستأذنهما في المغادرة ، عاد إلى الجبل والى كهفه ، يعبد الله صباح مساء ، يعبده أناء الليل وأطراف النهار ، يتفكر في خلق الله وملكوته ، داوم على الحضور إلى المسجد يوم الجمعة صيفاً وشتاءً ، في الشتاء لا مشكلة عنده ، وفي الصيف كان يمد يده ويدعو الدعاء على النهر فيتجمد النهر في رحلة الذهاب إلى المسجد وعند العودة منه .
ومع بداية الصيف والجو كان لا زال يتمتع ببعض الاعتدال ويحتفظ ببعض البرودة بين ثنايا هوائه العليل في أوقات العصارى ، أصر أبو الصافي على دعوة الشيخ ولاء والشيخ براء لتناول طعام الغداء معه يوم الجمعة عرفاناً منه بفضلهما عليه ، تحت إلحاح أبو الصافي الشديد ومن باب إذا دعيتم فلبوا ... قبلا الدعوة لتناول الغداء يوم الجمعة .
بعد الانتهاء من صلاة الجمعة ، اتجه ثلاثتهم صوب الكهف في بطن الجبل ، وفى طريقهم عبروا النهر بعد أن دعا أبو الصافي دعاءه الذي تعود على ترديده عندما يعبر النهر والذي تعلمه منهما .
كان المعمر أبو الصافي قد أولم بشاة مليحة ، وضعها على منسف أمام الشيخين وأخذ بإطعامهما كالحمام عندما تطعم صغاره ، كانت وليمة ندر مثيلها بشهادة الشيخين .
مالت الشمس إيذاناً بالاختباء خلف الأفق البعيد ، استأذن الشيخان ، نزل أبو الصافي الجبل برفقتهما مودعاً ، عند سفح الجبل كانت بداية طريق العودة إلى قرية الصافي ، صافحهما أبو الصافي مودعاً ، كادا أن يطلبا منه لكنهما خجلا خجلاً شديداً في أن يطلبا منه المساعدة في قطع النهر .
أخذا في السير ببط ء حتى وصلا إلى رافد النهر ، نظرا إلى صفحة المياه المتدفقة في النهر ، وأحسا بهدير النهر الغاضب ، تدفق المياه أصبح أكثر قوة وسرعة ، نظر الشيخ ولاء لوجه صاحبه مرة وللماء مرة أخرى ، ثم عاد ينظر إلى وجه صاحبه قائلاً :
- ما العمل الآن يا شيخ براء ؟!!!
- أن ندعو بالدعاء !!!
مد كل منهما يده فوق صفحة الماء وكرر الدعاء " اللهم يا رب العرش العظيم جمد هذا الماء " مرات عدة ولكن بدون فائدة !!!
نظر ولاء إلى براء وقال له :
- لم يجمد الماء يا شيخ !!! أتعتقد أن سريرتنا ليست صافية كصفاء سريرة أبو الصافي ؟!!!
- لسنا ملائكة ولكننا لسنا شياطين !!!
- من بره رخام ومن جوه سخام .... من بره هله هله ومن جوه يعلم الله !!!
- إذن لنقطع هذا الرافد سباحة .
قذف كل منهما بنفسه في النهر ، وأخذا يقاومان تياره الجارف محاولين الوصول إلى الضفة الأخرى ، لكن التيار القوى كان أقوى من عزيمتهما في التشبث بأهداب الحياة ، خارت عزيمة الشيخ ولاء فصاح قائلاً :
- اليوم لا محالة هالكون يا شيخ !!! نحن أمام قوة نهر ، فما بالك بقوة العزيز الجبار .. علام القلوب ... اليوم انكشف اللثام عن وجه اللئام !!!
- يا رب سامحنا ... يا رب اغفر لنا ... قالها الشيخ براء وهو يصارع تيار النهر الجارف قبل أن يبتلعه ويصبح في خبر كان ... كان ولاء وكان براء ...