باتت الآن تركيا تشغل الرأي العام العربي، والعالمي أحيانا، وليس أقل منهما انشغالا الإعلام الإسرائيلي. آخر المانشيتات تناولت حادثة السفير التركي، وطريقة التعامل معه من قبل موظفي الخارجية الإسرائيلية تعبيرا عن احتجاج إسرائيلي من عرض مسلسل وادي الذئاب الجزء الثالث، واعتذار الحكومة الإسرائيلية عن هذا التصرف!
العنوان الأبرز الذي لفت نظرنا، هو تهافت بعض الكتاب والمثقفين، في الحديث عن قيام أحلاف رباعية في المنطقة، وكل من هؤلاء يتمنى قيام تحالفه المرجو" إيران تركيا سورية العراق" والحلف الآخر" تركيا سورية مصر السعودية" وقلة لا تذكر حاولت أن تلعب باللوحة، فاقترحت حلفا تركيا سعوديا إيرانيا سوريا، والفارق بين الرؤيتين معروف للجميع بالطبع. الأولى تريد تمتين حلف الممانعة والمقاومة، كما تراها، والثانية تريد تمتين موقع السلطة العربية، بمعزل عن لونها السياسي! وهذا في كلتا الحالتين أمر يعد تقدما لحزب العدالة والتنمية التركي.
تركيا الآن تحكمها مؤسستان، وكل مؤسسة لها منطقها، المؤسسة الأولى هي ما يمكن تسميته" الدولة العليا، أو حارسة تركيا الأتاتوركية، أما المؤسسة الثانية فهي" التي أتت بحزب العدالة والتنمية بزعامة غول وأردوغان"
أريد قبل الدخول إلى التفاصيل التي تعنينا هنا، أن أؤكد على أن المؤسسة الأولى باتت ملوثة بتاريخها المهني والأخلاقي، رغم حفاظها على التركة الأتاتوركية.
أما المؤسسة الأردوغانية- الديمقراطية، فلازالت تنتهج العلنية، وتبتعد قدر الإمكان، عن تلويث سمعتها بالفساد، كما أنها سجلت في سجلها أنها" تريد دورا محوريا لتركيا في العالم الإسلامي والشرق أوسطي، والثانية هي تعاطيها الملفت مع المسألة الكردية في تركيا، والتي لازالت تواجه فيها عتاة الرجال ومنطقهم، من ذوي النظارات السوداء في المؤسسة الأتاتوركية. كما أن هذا لا يعني عدم وجود تداخل سياسي وأمني ووظيفي بين المؤسستين.
المؤسسة الأتاتوركية التي أفشلت أوروبا سياستها وأفقدتها أحد اهم نقاط ارتكازها، وهي انها كانت ولازالت تمني نفسها بأن تصبح إحدى دول الاتحاد الأوروبي، وهذا جزء أصيل من مقتضيات الحفاظ على التركة الأتاتوركية. ما أراه، ويهمل في الجانب العربي عموما هو" أن حزب العدالة والتنمية يحاول أن يغير نظرة المواطن التركي لأطقم الحالة الحزبية التي مرت عليه كأطقم طالها الفساد السياسي والمالي. وهذه نقطة أبدا لا تعجب حلفاء تركيا الآن في المنطقة، فلا تعجب إسرائيل ولا تعجب نظام الأسد في سورية، ولكل دوافعه الخاصة، لهذا لا يجري الحديث عنها في وسائل الإعلام العربية. إن الثلاثي أردوغان- جول-أوغلو، بات لديهم في الحكم تاريخ مهني نظيف، وهذه حالة نادرة في الدول الشرق أوسطية.
النقطة الثانية" وهي الحرب الدائرة بين المؤسسة الأتاتوركية وبين المؤسسات الديمقراطية التركية، وهذه الحرب وتفاصيلها، لا يرغب إعلام السلطة في المنطقة العربية من متابعتها، لأنها قضية تتعلق بالديمقراطية العدو الأول لهذه السلطة"
الاقتصاد التركي شهد نموا كبيرا في العهد الأردوغاني، والدور التركي الشرق أوسطي يشهد تطورا ملحوظا بعهد خارجية أحمد اوغلو، والمسألة الكردية دخلت حقل" المسموح النقاش فيه" ومسموح سن القوانين الجديدة فيه" ونتيجة لمعارك ديمقراطية، وهذه نقلة مهمة تسجل لحزب العدالة والتنمية، وهذه أيضا لا يهتم بها الإعلام العربي.
أما قضية تركيا نموذجا لحكم حزب إسلامي ديمقراطي، فهذه قضية يتم التذكير فيها، للرد على خطر الإسلاميين العرب، في بعض الدول العربية. وهذه أيضا يتجاهلها مفكري التنظيم العالمي للأخوان المسلمين، وخاصة فرعيه المصري والسوري.
التركيز يتم فقط على مواقف الحكومة التركية من القضية الفلسطينية ومن أحداث غزة، حيث لسان حالهم يقول" أرأيتم موقف تركيا، تغير لأن من يحكم فيها هو حزب إسلامي! وهذه ديباجة، حتى لو كان فيها شيئا من الصحة، إلا أنها أبدا ليست بيت القصيد في تفسير الموقف التركي، لأن سؤالا في تركيا فرض نفسه، حتى على المؤسسة الأتاتوركية، وخاصة بعد رفض جارح من قبل الاتحاد الأوروبي لانضمام تركيا إليه، هذا السؤال هو" ماذا استفادت تركيا من علاقاتها بإسرائيل، وصمتها السابق؟ هذا السؤال احرج ايضا لابسي النظارات السوداء من الجنرالات ومنظري القومية الأتاتوركية، مع أنهم لازالوا يريدون أن تتغير المعادلة، لإسقاط الديمقراطية التي أتت بحزب العدالة، وهذا لا يريده الأمريكان أقله في هذه المرحلة. ومن الملاحظ أن السياسة الأمريكية لم تعد متحمسة كثيرا، لأن تضغط على تركيا كرمى لإسرائيل، وهذا له أسباب كثيرة مجالها ليس هنا.
المنطقان يتصارعان ويتنافسان، والأهم هو رضوخ المنطق القومي التقليدي التركي للمنطق الديمقراطي التركي، حتى لو فكر بعض الجنرالات بانقلاب، فإنهم لن يجدوا صدى يذكر، لا في العالم ولا في الشارع التركي، الذي انتخب حزب العدالة والتنمية بعد تجارب مريرة مع نخب فاسدة يحكمها العسكر والأمن الأتاتوركي.
الديمقراطية التركية، تستحق أن يعطى لها المساحة الأكبر من المتابعة، وليس بعض مواقف أردوغان التي تنطلق أيضا من رؤيته لمصلحة تركيا كدولة أولا وأخيرا وليس إرضاء لتيار الممانعة والمقومة العربية والإيرانية.